فصل: تفسير الآيات (47- 52):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأما قبض الجمع فهو ما يحصل للقلب حال جمعيته على الله من انقباضه عن العلم وما فيه فلا يبقى فيه فضل ولا سعة لغير من اجتمع قلبه عليه وفي هذه الحال من أراد من صاحبه ما يعهده منه من المؤانسة والمذاكرة فقد ظلمه وأما قبض التفرقة فهو القبض الذي يحصل من تفرق قلبه عن الله وتشتته عنه في الشعاب والأودية فأقل عقوبته ما يجده من القبض الذي يتمنى معه الموت وأما القبض الذي أشار إليه صاحب المنازل فهو شيء وراء هذا كله فإنه جعله من قسم الحقائق وذلك القبض الذي تقدم ذكره من قسم البدايات ولهذا قال القبض في هذا الباب اسم يشار به إلى مقام الضنائن ومن هنا حسن استشهاده بإشارة الآية لأنه تعالى أخبر عن قبض الظل إليه والقبض في هذا الباب يتضمن قبض القلب عن غيره إليه وجمعيته بعد التفرقة عليه والضنائن جمع ضنينة وهي الخاصة يضن بها صاحبها أي يبخل ببذلها ويصطفيها لنفسه ولهذا قال الذين ادخرهم الحق اصطناعا لنفسه والادخار افتعال من الذخر وهو ما يعده المرء لحوائجه ومصالحه والاصطناع بمعنى الاصطفاء قال تعالى لموسى {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} والاصطناع في الأصل اتخاذ الصنيعة وهي الخير تسديه إلى غيرك قال الشاعر:
وإذا اصطنعت صنيعة فاقصد بها ** وجه الذي يولي الصنائع أودع

قال ابن عباس اصطنعتك لوحيي ورسالتي وقال الكلبي اخترتك بالرسالة لنفسي لكي تحبني وتقوم بأمري وقيل اخترتك بالإحسان إليك لإقامة حجتي فتكلم عبادي عني قال أبو إسحاق اخترتك بالإحسان إليك لإقامة حجتي وجعلتك بيني وبين خلقي حتى صرت في الخطاب والتبليغ عني بالمنزلة التي أكون أنا بها لو خاطبتهم.
وقيل مثل حاله بحال من يراه بعض الملوك لجوامع خصال فيه وخصائص أهلا لكرامته وتقريبه فلا يكون أحد أقرب منه منزلة إليه ولا ألطف محلا فيصطنعه بالكرامة والأثرة ويستخلصه لنفسه بحيث يسمع به ويبصر به ويطلع على سره والمقصود أن الرب سبحانه حال بين هؤلاء الضنائن وبين التعلق بالخلق وصرف قلوبهم وهممهم وعزائمهم إليه قال وهم على ثلاث فرق فرقة قبضهم إليه قبض التوقي فضن بهم عن أعين العالمين هذا الحرف في التوقي بالقاف من الوقاية وليس من الوفاة أي سترهم عن أعين الناس وقاية لهم وصيانة عن ملابستهم فغيبهم عن أعين الناس فلم يطلعهم عليهم وهؤلاء هم أهل الانقطاع والعزلة عن الناس وقت فساد الزمان ولعلهم الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: «يوشك أن يكون خير مال المرء غنما يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر» وقوله «ورجل معتزل في شعب من الشعاب يعبد ربه ويدع الناس من شره» وهذه الحال تحمد في بعض الأماكن والأوقات دون بعضها وإلا فالمؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من هؤلاء فالعزلة في وقت تجب فيه ووقت تستحب فيه ووقت تباح فيه ووقت تكره فيه وقت تحرم فيه ويجوز أن يكون قبض التوفي بالفاء أجسادهم وقلوبهم من بين العالمين وهم في الدنيا لكن لما لم يخالطوا الناس كانوا بمنزلة من قد توفي وفارق الدنيا قال وفرقة قبضهم بسترهم في لباس التلبيس وأسبل عليهم أكلة الرسوم فأخفاهم عن عيون العالم.
هذه الفرقة هم مع الناس مخالطون والناس يرون ظواهرهم وقد ستر الله حقائقهم وأحوالهم عن رؤية الخلق لها فحالهم ملتبس على الناس لا يعرفونه فإذا رأوا منهم ما يرون من أبناء الدنيا من الأكل والشرب واللباس والنكاح وطلاقة الوجه وحسن العشرة قالوا هؤلاء من أبناء الدنيا وإذا رأوا ذلك الجد والهمم والصبر والصدق وحلاوة المعرفة والإيمان والذكر وشاهدوا منهم أمورا ليست من أمور أبناء الدنيا قالوا هؤلاء من أبناء الآخرة فالتبس حالهم عليهم وهم مستورون عن الناس بأسبابهم وصنائعهم ولباسهم لم يجعلوا لطلبهم وإرادتهم إشارة تشير إليهم اعرفوني فهؤلاء يكونون مع الناس والمحجوبون لا يعرفونهم ولا يرفعون بهم رءوسا وهم من سادات أولياء الله صانهم الله عن معرفة الناس كرامة لهم لئلا يفتتنوا بهم وإهانة للجهال بهم فلا ينتفعون بهم وهذه الفرقة بينها وبين الأولى من الفضل مالا يعلمه إلا الله فهم بين الناس بأبدانهم وبين الرفيق الأعلى بقلوبهم فإذا فارقوا هذا العالم انتقلت أرواحهم إلى تلك الحضرة فإن روح كل عبد تنتقل بعد مفارقة البدن إلى حضرة من كان يألفهم ويحبهم فإن المرء مع من أحبه قوله وأسبل عليهم أكلة الرسوم أي أجرى عليهم أحكام الخلق يأكلون كما يأكلون ويشربون كما يشربون ويسكنون حيث يسكنون ويمشون معهم في الأسواق ويعانون معهم الأسباب وهم في واد والناس في واد فمشاركتهم إياهم في ذلك هي التي سترتهم عن معرفتهم وعن إدراك حقائقهم فهم تحت ستور المشاركة:
ووراء هاتيك الستور محجب ** بالحسن كل العز تحت لوائه

لو أبصرت عيناك بعض جماله ** لبذلت منك الروح في إرضائه

ما طابت الدنيا بغير حديثه ** كلا ولا الأخرى بدون لقائه

يا خاسرا هانت عليه نفسه ** إذ باعها بالغبن من أعدائه

لو كنت تعلم قدر ما قد بعته ** لفسخت ذاك البيع قبل وفائه

أو كنت كفوا للرشاد وللهدى ** أبصرت لكن لست من أكفائه

قوله وفرقة قبضهم منهم إليه فصافاهم مصافاة سر فضن بهم عليهم هذه الفرقة إنما كانت أعلى من الفرقتين المتقدمتين لأن الحق سبحانه قد سترهم عن نفوسهم لكمال ما أطلعهم عليه وشغلهم به عنهم فهم في أعلى الأحوال والمقامات ولا التفات لهم إليها فهؤلاء قلوبهم معه سبحانه لا مع سواه فلم يكونوا من السوى ولا السوى منهم بل هم مع السوى بالمجاورة والامتحان لا بالمساكنة والألفة قلوبهم عامرة بالأسرار وأرواحهم تحن إليه حنين الطيور إلى الأوكار قد سترهم وليهم وحبيبهم عنهم وأخذهم إليه منهم قوله فصافاهم مصافاة سر أي جعل مواجيدهم في أسرارهم وقلوبهم للطف إدراكهم فلم تظهر عليهم في ظواهرهم لقوة الاستعداد قوله فضن بهم عليهم أي أخذهم عن رسومهم فأفناهم عنهم وأبقاهم به وقد علمت من هذا أن القبض المشار إليه في هذا الباب ليس هو القبض الذي يشير إليه القوم في البدايات والسلوك والله أعلم. اهـ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ.

.تفسير الآيات (47- 52):

قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49) وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (50) وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51) فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما تضمنت هذه الآية الليل النهار، قال مصرحًا بهما دليلًا على الحق، وإظهارًا للنعمة على الخلق: {وهو} أي ربك وحده {الذي جعل} ولما كان ما مضى في الظل أمرًا دقيقًا فخص به أهله، وكان أمر الليل والنهار ظاهرًا لكل أحد، عم فقال: {لكم الليل} أي الذي تكامل به مد الظل {لباسًا} أي ساترًا للأشياء عن الأبصار كما يستر اللباس {والنوم سباتًا} أي نومًا وسكونًا وراحة، عبارة عن كونه موتًا أصغر طاويًا لما كان من الإحساس، قطعًا عما كان من الشعور والتقلب، دليلًا لأهل البصائر على الموت؛ قال البغوي وغيره: وأصل السبت القطع.
وفي جعله سبحانه كذلك من الفوائد الدينية والدنيوية ما لا يعد، وكذا قوله: {وجعل النهار نشورًا} أي حياة وحركة وتقلبًا بما أوجد فيه من اليقظة المذكرة بالبعث، المهيئة للتقلب، برد ما أعدمه النوم من جميع الحواس؛ يحكى أن لقمان قال لابنه: كما تنام فتوقظ فكذلك تموت فتنشر.
فالآية من الاحتباك: ذكر السبات أولًا دليلًا على الحركة ثانيًا، والنشور ثانيًا دليلًا على الطيّ والسكون أولًا.
ولما دل على عظمته بتصرفه في المعاني بالإيجاد والإعدام، وختمه بالإماتة والإحياء بأسباب قريبة، أتبعه التصرف في الأعيان بمثل ذلك، دالًا على الإماتة والإحياء بأسباب بعيدة، وبدأه بما هو قريب للطافته من المعاني، وفيه النشر الذي ختم به ما قبله، فقال: {وهو} أي وحده {الذي أرسل الرياح} فقراءة ابن كثير بالإفراد لإرادة الجنس، وقراءة غيره بالجمع أدل على الاختيار بكونها تارة صبًا وأخرى دبورًا، ومرة شمالًا وكرة جنوبًا وغير ذلك {بشرًا} أي تبعث بأرواحها السحاب، كما نشر بالنهار أرواح الأشباح {بين يدي رحمته} لعباده بالمطر.
ولما كان السحاب قريبًا من الريح في اللطافة، والماء قريبًا منهما ومسببًا عما تحمله الريح من السحاب، أتبعهما به، ولما كان في إنزاله من الدلالة على العظمة بإيجاده هنالك وإمساكه ثم إنزاله في الوقت المراد والمكان المختار على حسب الحاجة ما لا يخفى، غير الأسلوب مظهرًا للعظمة فقال: {وأنزلنا من السماء} أي حيث لا ممسك للماء فيه غيره سبحانه {ماء} ثم أبدل منه بيانًا للنعمة به فقال: {طهورًا} أي طاهرًا في نفسه مطهرًا لغيره، اسم آلة كالسحور والسنون لما يتسحر به ويستن به، ونقل أبو حيان عن سيبويه أنه مصدر لتطهّر المضاعف جرى على غير فعله.
وأما جعله مبالغة لطاهر فلا يفيد غير أنه بليغ الطهارة في نفسه لأن فعله قاصر.
ولما كانت هذه الأفعال دالة على البعث لكن بنوع خفاء، أتبعها ثمرة هذا الفعل دليلًا واضحًا على ذلك، فقال معبرًا بالإحياء لذلك، معللًا للطهور المراد به البعد عن جميع ما يدنسه من ملوحة أو مرارة أو كبرتة ونحو ذلك مما يمنع كمال الانتفاع به: {لنحيي به} أي بالماء.
ولما كان المقصود بإحياء الأرض بالنبات إحياء البلاد لإحياء أهلها قال: {بلدة} ولو كان ملحًا أو مرًا أو مكبرتًا لم تكن فيه قوة الإحياء.
ولما كره أن يفهم تخصيص البلاد، أجري الوصف باعتبار الموضع ليعم كل مكان فقال: {ميتًا} أي بما نحدث فيه من النبات بعد أن كان قد صار هشيمًا ثم ترابًا، ليكون ذلك آية بينة على قدرتنا على بعث الموتى بعد كونهم ترابًا.
ولما كان في مقام العظمة، بإظهار القدرة، زاد على كونه آية على البعث بإظهار النبات الذي هو منفعة للرعي منفعة أخرى عظيمة الجدوى في الحفظ من الموت بالشرب كما كانت آية الإحياء حافظة بالأكل فقال: {ونسقيه} أي الماء وهو من أسقاه- مزيد سقاه، وهما لغتان.
قال ابن القطاع: سقيتك شرابًا وأسقيتك، والله تعالى عباده وارضه كذلك.
{مما خلقنا} أي بعظمتنا.
ولما كانت النعمة في إنزال الماء على الأنعام وأهل البوادي ونحوهم أكثر، لأن الطير والوحش تبعد في الطلب فلا تعدم ما تشرب، خصها فقال: {أنعامًا} وقدم النبات لأن به حياة الأنعام، والأنعام لأن بها كمال حياة الإنسان، فإذا وجد ما يكفيها من السقي تجزّأ هو بأيسر شيء، وأتبع ذلك قوله: {وأناسيّ كثيرًا} أي بحفظنا له في الغدران لأهل البوادي الذين يبعدون عن الأنهار والعيون وغيرهم ممن أردنا، لأنه تعالى لا يسقي جميع الناس على حد سواء، ولكن يصيب بالمطر من يشاء، ويصرفه عمن يشاء، ويسقي بعض الناس من غير ذلك، ولذا نكر المذكورات- كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: ما من عام بأمطر من عام، ولكن الله قسم ذلك بين عباده على ما يشاء- وتلا هذه الآية.
وقال البغوي: وذكر ابن إسحاق وابن جريج ومقاتل وبلغوا به ابن مسعود رضى الله عنه يرفعه قال: ليس من سنة بأمطر من أخرى، ولكن الله قسم الأرزاق، فجعلها في السماء الدنيا في هذا القطر، ينزل منه كل سنة بكيل معلوم ووزن معلوم، فإذا عمل قوم بالمعاصي حول الله ذلك إلى غيرهم، وإذا عصوا جميعًا صرف الله تعالى ذلك إلى الفيافي والبحار- انتهى.
وكان السر في ذلك أنه كان من حقهم أن يطهروا ظواهرهم وبواطنهم، ويطهروا غيرهم ليناسبوا حاله في الطهورية، فلما تدنسوا بالقاذورات تسببوا في صرفه عنهم.
ولما ذكر سبحانه أن من ثمرة إنزال القرآن نجومًا إحياء القلوب التي هي أرواح الأرواح، وأتبعه ما لاءمه، إلى أن ختم بما جعله سببًا لحياة الأشباح، فكان موضعًا لتوقع العود إلى ما هو حياة الأرواح، قال عاطفًا على متعلق {كذلك لنثبت} [الفرقان: 32] منبهًا على فائدة أخرى لتنجيمه أيضًا: {ولقد صرفناه} أي وجهنا القرآن.